فى: السبت - يناير 12, 2019 Print
"أحسست أن درجة السخونة التي تخرج من رأسي تجاوزت قيظ أغسطس بكل حدته وشدته، لم أستطع إخفاء حالة الارتباك التي باغتتني، ودارت الأرض بي ومر من أمامي شريط الذكريات بكل ما فيها والتي سجلتها لحظة بلحظة عليه لسنوات".
هذا هو وصف حالتي وأنا جالس أمام زميلين لي في "أرقام" في أحد المطاعم لتناول الغداء بعدما فقدت جوالي، فالأمر لا يتوقف فقط على ما يخص العمل، بل هو جزء كبير من حياتي لم أنتبه لأهميته، أو بالأحرى خصوصيته الشديدة إلا بعد فقد هذا الجوال رغم أنى أمتلك اثنين غيره.
تحولت جلستنا الهادئة-بعد اكتشاف فقده- إلى حالة طوارئ طالت حتى العاملين في المطعم، فهذا يتصل بزميل لنا له خبرة في كيفية إغلاقه عن بُعد، وذاك يهاتف المكتب كي يبحثوا عنه، وعمال المطعم نصحوا بإعادة تفتيش الحقيبة التي أحملها مجددا بعد البحث في كل أرجاء المكان عنه، هذا وقد باءت محاولة البحث عن سيارة الأجرة التي أتينا فيها بالفشل في الحيز القريب من المطعم.
حاولت مرارا التظاهر بعدم الاكتراث، لكن ملامح وجهي فضحتني تماما، وعبثا حاولنا الاتصال بالجوال لعشرات المرات أثناء ساعة مرت عليّ كدهر لطولها، تأكدت بعدها أن السائق وجده ولن يرد علينا.
بقية التفاصيل "الدرامية" الأخرى، أظهرت فيما بعد أن الجوال كان على "الوضع الصامت"-وأنا من صدمتي نسيت ذلك- ووقع مني على المقعد الخلفي في "التاكسي" أثناء خروجنا منه، وبالتالي لم يسمع السائق كل المكالمات التي قمت بإجرائها مع زميلاي، قبل أن يركب أحد الزبائن ويجده ويسلمه له.
هذه القصة "الحقيقية" التي انتهت بعثوري على الجوال بعد ساعة أو أقل، بجانب أنها أجبرتني على مراجعة الكثير من تفاصيل حياتي وكيفية تسجليها، جعلتني أشعر، بل أتيقن أنني بَدَوْتُ مصابا بالـ"نوموفوبيا".
فما هي "نوموفوبيا" أو "الخوف من فقدان الجوال"؟
تعتبر دراسة لجامعة "كامبريدج" شملت قرابة ألف شخص "نوموفوبيا" من ضمن "أمراض العصر الحديث"، فيما كشفت نتائجها عن تخطي نسبة هؤلاء المصابين بدرجة أو بأخرى من الخوف من عدم وجود الجوال معهم 80%، وازدياد النسبة بين الشباب عنها بين الأكبر سنًا.
إدمان
وتختلف درجات "هذا النوع من الخوف" من مجرد بعض التوتر العابر من وقت لآخر لدى البعض لمرحلة الرغبة الشديدة في الانتحار لدى البعض الآخر، بل سجل البعض علامات مشابهة لعلامات التوقف عن التدخين أو المخدرات حال حرمانهم من الجوال.
وتشير المجلة الدورية للجمعية النفسية الأمريكية إلى أن الأزمة الحقيقية في هذا "الرهاب" هو في الاعتماد المبالغ فيه في الهواتف لتحقيق أهداف مثل التعلم والأمان والحصول على المعلومات، حتى إن الكثيرين توقفوا عن سؤال من يعرفون عن أسهل المعلومات وأصبحوا يستعينون بالجوال، ويقولون مثلًا "سأحضر جوالي لأعرف أفضل المطاعم في تلك المنطقة".
فهذا الارتباط المتواصل يخلق حالة من "الاعتمادية" التي ترتبط شرطيًا بمدى استخدام الشخص للهاتف قبل أي شيء غير أن هناك العديد من العوامل الأخرى التي تجعله معرضًا للإصابة بـ"نوموفوبيا" من عدمه.
ولـ"نوموفوبيا" العديد من الأعراض، لعل أهمها هو عدم سعي الأشخاص المبالغين في الاعتماد على الجوال إلى تحصيل العلوم أو المعرفة حول العديد من الأشياء، اعتمادًا على أن بوسعهم في أي وقت الوصول إليها عبر استخدام الجوال من خلال الولوج على الإنترنت.
العاطفية في معاملة الجوال
فالمصاب بالـ"نوموفوبيا" يحرص دائمًا على أن تكون بطارية جواله مشحونة بشكل كامل طيلة الوقت، وألا ينفذ رصيده أو باقته، ويفحص هاتفه بشكل مفرط للتأكد من عدم وجود رسائل أو تنبيها أو اتصالات فائتة، وقد يكون أول شيء يفعله فور الاستيقاظ هو مراجعة الجوال بدلًا من الانتظار لحين النهوض من الفراش، وحمله معه حتى إلى دورات المياه وفي مناسبات لها خصوصيتها مثل العزاء مثلًا.
كما يعاني حوالي 70% من الذين يقعون فريسة لدرجات متقدمة من الإصابة بـ"نوموفوبيا" من عدم القدرة على إجراء مناقشات طبيعية، بل ويصل البعض منهم إلى حد تطور قدرته على فهم الحوارات المكتوبة على برامج المحادثة على الجوال من خلال استخدام التعبيرات (الإيموجي) أكثر من قدرته على فهم ردود أفعال الأشخاص الطبيعيين.
ويرجع هذا إلى أن العقل البشري يتعامل في كثير من الأحيان بشكل عاطفي مع الجوال كونه مصدرا يمده باحتياجاته، خاصة من المعلومات، بما يربطه عاطفياً به ولا ينظر إليه باعتباره آلة كبقية الآلات التي يستخدمها في يومه.
وتشير دراسة لجامعة "أيوا" الأمريكية أجريت على المراهقين أنهم أكثر معاناة من "نوموفوبيا"، حيث اعترف كثير منهم صراحة أنهم "سيشعرون باضطراب شديد إذا لم يكن معهم هاتفهم أو فقد الاتصال بالإنترنت، أو حتى انتهت "باقة" البيانات.
أمراض "نفس/جسمية"
وكشفت الدراسة عن تعرض البعض لأعراض جسدية في حالة عدم وجود الجوال بحوزتهم، منها اضطرابات في المعدة، وفقدان الشهية والصداع النصفي، وكلها أعراض لأمراض "نفس/ جسمية" أي أنها تحدث لأسباب نفسية ولكنها تظهر على هيئة أعراض جسدية.
وتشير الدراسة إلى أن بعض "البرامج/التطبيقات/المساعدات" الذكية مثل "سيري" في "آيفون" تكون "بديلًا نفسياً" للأصدقاء الطبيعيين، حتى يصبح الشعور النفسي لعدم تواجد الهاتف هو نفسه في فقدان صديق مقرب أو حتى زوج أو زوجة.
وما يزيد من خطورة الـ"نوموفوبيا" ارتفاع نسبة المصابين بها في المجتمع، إذ تقدرها دراسات شتى بين 66-90% من مستخدمي الجوالات، وترتفع النسبة بين مستخدمي الهواتف الذكية وأيضًا بين جوالات تعتمد بشكل مكثف على الذكاء الاصطناعي والتي تعد النقلة التكنولوجية المنتظرة، حيث لم تنتشر بصورة كبيرة بعد.
ولتوضيح مدى فداحة تلك النسبة، يكفي الإشارة إلى أن الأنواع الأخرى من الـ"فوبيا" (الخوف غير المبرر)، مثل الخوف من الارتفاعات أو الأماكن الضيقة أو غيرها، غالباً ما تتراوح نسبتها بين 5-10% فحسب، ولا يصل الأمر أبدًا لتلك النسب المتزايدة.
والأزمة كذلك في أن الكثير من المصابين بالـ"نوموفوبيا" لا يشعرون بذلك لأنهم محاطون بأشخاص لديهم الرهاب نفسه فيعتبرون الأمر طبيعياً، بل إن البعض منهم لا يجد غضاضة في اعتبار الجوال بمثابة صديقه المقرب.أرقام
Last Updated 17 hours ago
© جميع الحقوق محفوظة 2017 - 2024